الوساطة والسلام- صعود دور قطر وتركيا في حل النزاعات العالمية

المؤلف: حمزة يوسف08.27.2025
الوساطة والسلام- صعود دور قطر وتركيا في حل النزاعات العالمية

في الماضي القريب، عندما كانت قادة العالم يسعون جاهدين لإرساء قواعد السلام، كانت وجهاتهم المفضلة تتمحور حول مدن أوروبية عريقة مثل جنيف وأوسلو. أما في العصر الحالي، فإنهم غالبًا ما يتوجهون صوب الشرق، وتحديدًا إلى مدن مثل الدوحة وإسطنبول، في تحول ملحوظ يعكس ديناميكيات جديدة في ساحة صنع السلام العالمية.

لطالما تبوأت القارة الأوروبية، على مدار عقود طويلة، مكانة مرموقة كمركز عالمي لتسوية المنازعات. فقد اضطلعت دول أوروبية رائدة، مثل سويسرا والنرويج، بدور محوري في التوفيق بين الأطراف المتنازعة في مختلف الصراعات الدولية، مستفيدة من حيادها الراسخ والتزامها الثابت بالدبلوماسية كأداة لحل الخلافات.

سويسرا، على سبيل المثال، قدمت عبر مبادرتها المعروفة بـ "المساعي الحميدة" خدمات جليلة لتسهيل المفاوضات في العديد من الملفات المعقدة، بدءًا من دعم عمليات السلام في مناطق مضطربة مثل سوريا وموزمبيق، وصولًا إلى استضافة كيانات مؤثرة وفاعلة في مجال الوساطة، وعلى رأسها "مركز الحوار الإنساني" ذائع الصيت على مستوى العالم.

أما النرويج، فلم تكن مساهماتها في هذا المجال أقل أهمية، حيث شاركت بفعالية في صياغة اتفاقيات أوسلو التاريخية، كما أدت دورًا بارزًا في دفع عملية السلام في كولومبيا إلى الأمام، مؤكدة بذلك التزامها العميق بتحقيق الوئام والانسجام على الصعيد العالمي.

إلا أن مركز الثقل في هذا الميدان الحيوي شهد تحولًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، حيث انتقل تدريجيًا من القارة الأوروبية إلى العالم الإسلامي، وذلك بفضل الصعود القوي لدولتين مؤثرتين، هما قطر وتركيا، اللتان تسعيان بدأب لإيجاد حلول جذرية لبعض من أعقد النزاعات وأكثرها استعصاءً في عالمنا المعاصر.

الدور التركي البارز في الأزمة الروسية-الأوكرانية يمثل مثالًا واضحًا وجليًا على هذا التحول العميق. ففي شهر يوليو/ تموز من عام 2022، وبالتعاون الوثيق مع منظمة الأمم المتحدة، نجحت تركيا في التوسط لإبرام "مبادرة البحر الأسود للحبوب" بين روسيا وأوكرانيا، مما أتاح استئناف تصدير الحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود بأمان وسلام.

وقد أسهم هذا الاتفاق بشكل كبير في تحقيق الاستقرار في أسواق الغذاء العالمية، حيث تم تصدير ما يزيد على 32 مليون طن متري من المواد الغذائية إلى الأسواق الدولية المختلفة، ووجهت كمية كبيرة منها تحديدًا إلى الدول النامية التي تعاني من نقص في الغذاء، وذلك قبل أن تتخذ روسيا قرارًا بالانسحاب من المبادرة في شهر يوليو/ تموز من عام 2023.

وفي تطور لافت، أعلن كل من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن استعدادهما التام لإجراء جولة جديدة من المحادثات في تركيا، وذلك في محاولة جادة للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بشكل كامل، وإنهاء الحرب المدمرة التي أودت بحياة الآلاف من الأبرياء، وتسببت في تشريد الملايين من السكان. ويشير ترحيب الطرفين باستضافة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لهذه المحادثات المرتقبة إلى سعي أنقرة الدؤوب للحفاظ على علاقات متوازنة مع كل من الشرق والغرب، دون أن تجبرها التحالفات السياسية على الانحياز إلى طرف دون الآخر.

أما دولة قطر، فإن جهودها الدبلوماسية المتواصلة والمتعددة الأوجه تسلط المزيد من الضوء على تنامي نفوذ العالم الإسلامي في ساحة الوساطة الدولية. فعلى الرغم من تعدادها السكاني الصغير نسبيًا، فقد اضطلعت قطر بدور قيادي وفعال في تسهيل الحوار البناء بين الأطراف المتنازعة في العديد من الصراعات الإقليمية والدولية، واستمرت في هذا المسعى النبيل على مدى عقدين من الزمن. وعلى الرغم من أن العديد من النجاحات التي حققتها قطر في هذا المجال لم تحظ بتغطية إعلامية واسعة أو عناوين بارزة في الصحف، إلا أنها انخرطت بهدوء وفاعلية في الوساطة في نزاعات معقدة في مناطق مختلفة مثل السودان وتشاد واليمن، مما يعكس التزامها الراسخ بتحقيق الاستقرار والازدهار في المنطقة.

كما لعبت قطر دورًا جوهريًا في محاولة التوصل إلى هدنة إنسانية في قطاع غزة المحاصر، وذلك بالشراكة الفاعلة مع حلفائها في الولايات المتحدة ومصر. وعلى الرغم من الانتكاسات المتكررة والإحباط المتزايد الذي أعربت عنه قطر إزاء استمرار الخلافات العميقة بين الأطراف المعنية، فإنها واصلت استضافة المحادثات الحساسة بين الاحتلال الإسرائيلي وحركة حماس، ساعية إلى إيجاد حلول مستدامة تنهي معاناة الشعب الفلسطيني.

إن هذا التوجه المتزايد لجهود السلام العالمي نحو العالم الإسلامي يعكس تحولًا أوسع نطاقًا في الجغرافيا السياسية العالمية، حيث تمتلك دول الخليج – على وجه الخصوص – قوة مالية هائلة تعزز نفوذها السياسي وتأثيرها على الساحة الدولية. وقد تجلى هذا التحول بوضوح عندما قرر الرئيس الأميركي آنذاك، دونالد ترامب، أن تكون أول زيارة خارجية له في ولايته الثانية إلى منطقة الخليج، متجاوزًا بذلك حلفاءه التقليديين في أوروبا وأميركا الشمالية، وحتى الإسرائيليين.

إن انخراط العالم الإسلامي المتزايد في جهود السلام يجب أن يُنظر إليه بعين الترحيب والتقدير، لا بعين الشك والريبة.

فالكثير من النزاعات المعاصرة تقع في مناطق ذات أغلبية مسلمة أو تؤثر عليها بشكل مباشر. ومن هنا، فإن وجود وسطاء يفهمون بعمق الخصوصيات الثقافية والدينية والاجتماعية لهذه المجتمعات يُعد أمرًا بالغ الأهمية ولا يقدر بثمن. فمخاطبة الأطراف المسلمة المتحاربة من خلال لغة ثقافية ودينية مشتركة، قد يحدث فرقًا حاسمًا بين استمرار دائرة العنف والصراع أو تحقيق السلام المنشود.

بل إن مبادئ السلام والمصالحة متجذرة بعمق في صميم تعاليم الدين الإسلامي الحنيف. فكلمة "إسلام" ذاتها مشتقة من كلمة "سلام"، مما يعكس جوهر هذه العقيدة السمحة الداعية إلى السلام والتسامح.

ولا شك أن العديد من زعماء العالم يسعون جاهدين إلى تحقيق السلام كوسيلة لترسيخ إرثهم الشخصي وترك بصمة إيجابية في التاريخ، وهو هدف نبيل وجدير بالسعي إليه. ويمكن القول إن شخصيات بارزة مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وأمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، المعروفين بالتزامهما الديني العميق، لا يريان في السعي إلى السلام مجرد مهمة دبلوماسية عابرة، بل يعتبرانها مسؤولية أخلاقية ودينية مقدسة.

من المؤكد أن بعض المنتقدين، خاصة في الحكومات الغربية، سيسارعون إلى الإشارة إلى بعض المآخذ المتعلقة بحقوق الإنسان في الدول التي أصبحت تنشط في ساحة الوساطة العالمية. لكن هذه المآخذ والانتقادات ليست حكرًا على العالم الإسلامي وحده؛ فالدول الغربية نفسها لطالما قامت بدور الوسيط في جهود السلام وهي تتعامل مع انتقادات مماثلة في مجال حقوق الإنسان، بل وفي أحيان كثيرة كانت منخرطة في تدخلات خارجية مثيرة للجدل والاعتراض.

فالحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن الدبلوماسية الدولية نادرًا ما يمارسها "القديسون" الذين لا تشوبهم شائبة. فالمعيار الأهم الذي يجب أن نركز عليه هو ما إذا كانت الدول قادرة على تجاوز مصالحها الضيقة والأنانية عندما تتطلب الظروف اتخاذ مواقف سامية ونبيلة. وفي حالات مثل وساطة قطر في قطاع غزة المحاصر، أو الدور الذي لعبته تركيا في تسهيل صادرات الحبوب الحيوية أثناء الحرب الروسية-الأوكرانية، فإن هذه الجهود الحميدة كان لها أثر إنساني ملموس وقابل للقياس على أرض الواقع. وهذا، بلا شك، هو المقياس الحقيقي الذي يجب أن نعتمد عليه في تقييم هذه الجهود.

أود أن أكون واضحًا وصريحًا: أنا لا أدعي بسذاجة أن دوافع العالم الإسلامي للمشاركة في جهود السلام هي مبرأة تمامًا من أي مصلحة خاصة. لكن لا ينبغي لنا أيضًا أن نخدع أنفسنا ونظن أن الوساطة في النزاعات لا تكون نبيلة ومحمودة إلا عندما تكون أوروبا هي الطرف الفاعل والمهيمن.

من الضروري أن ننظر إلى هذا التطور الإيجابي لا بوصفه تهديدًا لإرث أوروبا الدبلوماسي العريق، بل كتطور مكمّل له ومساهمة قيمة فيه. فالوساطة في النزاعات ليست مشروعًا رخيصًا أو يسيرًا، فهي تتطلب توفير موارد مالية ولوجستية كبيرة لاستضافة الوفود المتعددة، كما تستلزم استثمارًا ضخمًا في الوقت والجهد ورأس المال السياسي والطاقة والموارد البشرية والمالية، وذلك لتيسير الحوار البناء والفعال بين الأطراف المتنازعة.

وفي الوقت الذي تواجه فيه دول أوروبا تحديات اقتصادية متزايدة وتحولات سياسية متسارعة، فإن دخول العالم الإسلامي إلى ساحة الوساطة يقدم زوايا نظر جديدة ومبتكرة، ويضيف أيضًا مصادر تمويل حقيقية ومستدامة لهذه الجهود الإنسانية النبيلة.

في ظل هذا التوازن الجديد في قوى الدبلوماسية العالمية، يبدو أن العالم الإسلامي لم يعد مستعدًا للقبول بدور الضحية السلبية للنزاعات والصراعات، بل يسعى جديًا إلى أن يكون وسيطًا فاعلًا ومؤثرًا في تحقيق السلام المنشود.

وفي عالم يشهد تزايدًا ملحوظًا في الانقسامات والتصدعات وتراجعًا في الثقة بالقوى التقليدية، تتبوأ دول مثل قطر وتركيا أدوارًا جديدة ومحورية، وهي أدوار تثمر، في كثير من الحالات، عن نتائج إيجابية تخدم أهدافًا إنسانية نبيلة ذات أثر ملموس خلال فترات التفاوض الصعبة. فهذه الدول تجلب معها فهمًا عميقًا للثقافات المحلية، وروابط إقليمية متينة، ورأسمالًا سياسيًا وماليًا كبيرًا يُترجم إلى التزامات فعلية ومبادرات ملموسة.

وهذا التطور لا يشكل أي تهديد لإرث أوروبا العريق في صنع السلام، ولا يمثل محاولة للسطو على دورها التاريخي، بل يُعد توسعة ضرورية ومرحّب بها في الأدوات والآليات المتاحة للعالم لبناء السلام المستدام. فإذا كان السلام هو هدفنا المشترك وغايتنا النبيلة، فينبغي لنا أن نرحب بكل مساهمة مخلصة وهادفة، أيًا كان مصدرها أو الجهة التي تقف وراءها، ما دامت تقربنا خطوة نحو تحقيق هذا الهدف السامي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة